وجه الشبه بين حديث جبريل والآيات في مراتب الناس في الدين
ولذلك فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه الآية في معرض الرد عليهم، وشبه الأقسام الثلاثة فيها بالأقسام التي في حديث جبريل عليه السلام، فيكون الظالم لنفسه هو المسلم الذي لم يبلغ درجة الإيمان، والمسلم هو من كان من أهل القبلة، لكن لا يبلغ درجة الإيمان، ولا تستطيع أن تقول عنه: إنه مؤمن؛ لأنه يرتكب من المعاصي ما يحول بينه وبين استحقاق وصف بالإيمان، فهذا ينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] وهذا حاله كما في حديث سعد عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أراه لمؤمناً قال: أو مسلماً ) أي: لا تستطيع أن تزكيه بالإيمان؛ لأنه قد يفعل شيئاً من الأمور التي وردت في الحديث المتقدم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) وقد يكون عاقاً لوالديه، أو مؤذياً لجيرانه، أو يفقد الحياء، وقد يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر الباطنة، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس حين يظنون أن الكبائر هي في الأمور الظاهرة فقط، كالزنا والسرقة وشرب الخمر وما مثلنا به، في حين أن هناك الكبائر الباطنة أو الخفية مثل الغل على المؤمنين، والحسد، ومثل سوء الظن، ولذلك فقد جاء في نفس الآيات من سورة الحجرات ذكر بعض هذه الكبائر الباطنة كسوء الظن، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ))[الحجرات:12]، ومنها الغيبة والنميمة والحسد والغل على المؤمنين، فهذه كبائر خفية، والناس يفطنون للربا، أو للزنا، أو لشرب الخمر، أو لأكل مال اليتيم أكثر منها لكنها -والعياذ بالله- خطيرة جداً على الأمة، فعلى الإنسان أن يتجرد من هذه جميعاً.فالمسلم الذي في حديث جبريل عليه السلام هو الذي أتى بالأركان الخمسة الظاهرة، فهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت، فله أحكام المسلمين كافة، لكنه لا يكون مؤمناً بمجرد ذلك مع وجود ما يمنع استحقاقه اسم أو وصف الإيمان؛ ولهذا نجد أن الموعود بالجنة في القرآن هم المؤمنون، والأوصاف المعلق بها دخول الجنة هي أوصاف الإيمان، وليس مجرد الإسلام، فالإسلام هو المرتبة الأدنى من مراتب الدين التي إن أتى به الإنسان لم يحقق مرتبة الإيمان إلا بترك المحرمات غير الأركان المعلومة، أو فعل الواجبات غير الأركان أيضاً؛ لأن هناك واجبات يجب على الإنسان أن يأتي بها، ومحرمات يجب أن ينتهي عنها وهي غير هذه المباني أو الأركان الخمسة، فلا بد للإنسان أن يأتي بها ليصبح مؤمناً، فإذا أخل بشيء من ذلك فإنه يظل مسلماً ولا يستحق أن يسمى مؤمناً، فإذا لم يأت بما ينقص إيمانه، بل أتى بالواجبات وترك المحرمات بالإضافة إلى تحقيق هذه الأركان والأعمال الظاهرة التي هي أركان الإسلام، فإنه يسمى مؤمناً، وهو ما يقابله وصف المقتصد في آيات فاطر؛ لأن حديث جبريل عليه السلام فيه التدرج من الأدنى إلى الأعلى، وآيات فاطر فيها أيضاً التدرج من الأدنى إلى الأعلى.فإذاً: التشابه واضح بأن المسلم يقابله ظالم لنفسه، بمعنى: أنه ليس خارجاً عن هذه الأمة، لكنه لم يأت بما يستحق أن يصل به مرتبة الإيمان.المرتبة الثانية في حديث جبريل هي مرتبة الإيمان ويقابلها في آيات فاطر المقتصد، والإحسان في حديث جبريل عليه السلام يقابله في سورة فاطر السابق، فالسابق هنا هو المحسن هنالك، وشيخ الإسلام رحمه الله بين أن الله قسم الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها)، وقد قال ذلك رداً على الخوارج في أول كتاب الإيمان الأوسط ، فقال رحمه الله: (ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الثلاث المراتب المذكورة في حديث جبريل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومعلوم أن الظالم لنفسه أن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، فذلك مقتصد أو سابق) وقد شرح كلام الشيخ الطحاوي الإمام ابن أبي العز بقوله: (والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة) الفرق بينهما هو في الدرجات في الجنة (بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد).وأصحاب الوعيد من هذه الأمة يكونون من أهل الجنة باعتبار النهاية والعاقبة، فيقول رحمه الله: (ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب) ومعنى هذا الكلام أن الخوارج لو قالوا: إن الأقسام الثلاثة هي أقسام الناس عموماً فتكون آيات فاطر مثل آيات الواقعة ألزمهم أهل السنة والجماعة بأن هذه الأقسام الثلاثة هي من هذه الأمة، وليس الظالم لنفسه من اجتنب جميع الكبائر وتاب من جميع الذنوب، فهذا لا يمكن، فالأقسام الثلاثة في الآية كلهم مسلمون، والخوارج يلحقون مرتكب الكبيرة عند الخوارج و المعتزلة بالقسم الرابع: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ))[فاطر:36] والذين كفروا هنا هم اليهود و النصارى والزناة والخمارون والقتلة وأكلة الربا يدخلون هنا عند الخوارج و المعتزلة ، وكذلك الذي ترك المستحبات وفعل المكروهات، وهذا لا يصح أبداً، يقول رحمه الله: (الظالم لنفسه إذا أريد به من اجتنب الكبائر سيخرج من دائرة الكفر على كلام الخوارج والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، ولا يمكن أن يكون ظالماً لنفسه وهو تارك للكبائر أو تائب منها) أي: ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب فكل بني آدم خطاء، لكن من تاب وكان مقتصداً أو سابقاً فإنه يخرج عن أن يكون ظالماً لنفسه، وأصبح في إحدى المنزلتين: إما مقتصد وإما سابق بالخيرات، وقد تقدم أن التوبة تجب أو تهدم ما قبلها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في آي كثيرة من القرآن، فمن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات بدليل قوله تعالى: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ))[النساء:31]، ولا تحتاج أن تقول: المراد هنا الذي له ذنوب دون الكبائر، وأما الذي له ذنوب مثل الكبائر فهو عند الخوارج لا يكون ظالماً لنفسه؛ لأن ذنوبه هذه تكون مكفرة لارتكابه للكبائر، وقد أخبر تعالى في الآية أن هناك من هو ظالم لنفسه، ولا محيص للخوارج و المعتزلة من إثبات قسم ثالث يكون ظالماً لنفسه وموعوداً بالجنة، وعلى هذا تجتمع عندنا أحاديث الشفاعة مع ما هنا، ولهذا فإن الخوارج و المعتزلة ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر، وهم لا ينكرون الشفاعة العظمى، فالشفاعة في رفع درجات أهل الجنة ليس عندهم فيها إشكال، لكن أن تكون الشفاعة لمن كان مرتكباً لكبيرة فيشفع فيه فيتحول من طريق أهل النار إلى طريق أهل الجنة فيدخل الجنة، فهذا لا يؤمن به الخوارج و المعتزلة والأدلة عندنا تتظافر وتتوارد على بطلان مذهبهم هذا وفساده، فإن وجود هذا القسم حاصل قطعاً، وهو ما في الحديث: ( شفاعتي في أهل الكبائر من أمتي ) وهؤلاء هم الصنف الثالث الذي لا بد من افتراضه؛ لأن واقع الأمة المشاهد الآن وفي كل العصور لا يخفى على عاقل فيه أن هناك مذنبين مقصرين عصاة لم يخرجوا عن دائرة الإيمان، وهم أيضاً مقصرون في الالتزام بأعمال الإسلام، فلم يكونوا من أهل الإيمان بمعنى المرتبة أو الدرجة العليا، ففيهم الذنوب والمعاصي والتقصير، فيتخلفون أحياناً عن صلاة الجماعة وعن بعض الواجبات، ويقع في قلوبهم الحسد لإخوانهم المسلمين، وقد يغتابون، ولا يخلو أحد أن يلم بشيء منها ولو كانت صغائر، فلو أنه تاب وأقلع أصبح مقتصداً؛ فيلقى الله وعنده هذه الذنوب التي لا ترقى إلى أن تكفره خلافاً لقول الخوارج و المعتزلة ، ولا ترقى إلى أن تخرجه عن دائرة الإسلام كما يقول أهل السنة والجماعة ولا تخرجه من الدين، بل لا تنزله عن دائرة الإيمان أحياناً، وهذا هو الظالم لنفسه وهو مسلم وعنده الإيمان الذي هو بمعنى: الدين أي: ضد الكفر، والكبائر يتفاوتون الناس فيها، فهناك من يرتكب كبيرة واحدة كأن يكون شارباً للخمر مثلاً أو زانياً أو آكلاً للربا، وبعضهم يكون فيه كبيرتان، وبعضهم يكون فيه ثلاث وأربع، وكذلك في الدرجة الواحدة يتفاوت الناس كذلك، فمن ترك الكبائر الكبرى قد يكون فيه كبيرة أخرى أو أكثر، وهذه الذنوب والمعاصي لا تنزله أن يكون من دائرة المؤمنين والله قد جعل الناس متفاوتين في الطاعات واقتضى عدله أن تكون منازلهم ودرجاتهم في الجنة متفاوتة بحسب أعمالهم وأحوالهم ومقامهم من هذا الدين ومن هذا الإيمان في الدنيا.